القائمة الرئيسية

الصفحات

هل سمعت من قبل عن ديك الجن الحمصي؟

هل سمعت من قبل عن ديك الجن الحمصي؟

لم نسمع عن مدينة في العالم إرتبط اسمها بإسم شاعر كما ارتبطت مدينة "حمص" السورية بإسم شاعرها (عبد السلام بن رغبان) أو كما يُطلق عليه "ديك الجن الحمصي" الذي صنع من حياته وشعره أسطورة عربية ترددّ صداها في كل مكان وزمان، وكانت شخصيته غريبة الأطوار مثارًا لكثير من القصص والحكايات لغرابتها وتناقضاتها السيكولوجية، وربما نجد الوصف الذي أطلقه "ديك الجن" على نفسه "جنيّ في هيئة إنسان" هو الوصف الأدق لهذه الشخصية الغامضة والمحيرة إلى أبعد حدود الحيرة.

 فقد عاش "ديك الجن"حياة لا تعرف الحلول الوسط، بل كانت حياته مليئة بالمتناقضات، فمع حِدة طباعه وغرابتها كان شاعرًا رقيقًا مبدعًا، لكنه أيضاً هجّاء سليط اللسان عند المساس به، ومع اضطرابه وقلقه نجده العاشق المتيم الرومانسي، لكنه قاتل لمن يُحب لمجرد الشك فيه.


مولده:-

عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن مزيد بن تميم الكلبي الحمصي .
هو شاعر عربي عاش في العصر العباسي، ولد في عام 161 هـ في مدينة حمص السورية، وتوفي في عام 236 هـ.

ولد "ديك الجن" بمدينة حمص السورية حيث يقع نهر العاصي، في أحد أحيائها القديمة الذي يُسمى اليوم (باب الدُريب).


ما السبب وراء تسميته ب "ديك الجن"؟


سمي ديك الجن بهذا الاسم لأنه كان يحب دائما الخروج إلى البساتين وقضاء الوقت الجميل فيها وديك الجن اسم لدويبة تعيش عادةً في البساتين .
أما ابن عساكر والزركني قالا إنه لُقب بذلك لأن عينيه كانتا خضراء اللون أما البعض فقد ذكر انه لُقب بهذا اللقب لأنه كان شاربًا للخمر ولايرى من دونها .
والأرجح إنه سُمي بذلك لخضرة عينيه. 
 وعاش في حمص حياة مليئة بالأحداث امتدت قرابة 75عاماً.
 ‏ تميّزت حياته بثلاث مراحل، حيث عاش ديك الجن في طفولته حياة عادية، لم يعرف بها أحد، ولم يكن لديه ما يميزه عن أقرانه، كما أن كتب التراث لا تذكر شيئاً عن طفولته. وقد أصاب هذه الطفولة من النسيان والتجاهل ما يصيب طفولة معظم المبدعين الذين لا يُلتفت إليهم إلا بعد ظهور مواهبهم وتأكُّدها.
 وما نستطيع الجزم به أن ديك الجن دُفع في طفولته إلى المساجد حيث المعلمون والعلماء، وحيث حلقات العلم والبحث.
 ولقد انعكست هذه الفترة على طفولته ومراهقته وصدر شبابه، لأن آراءه وشعره ينطقان بتحصيل كم وافر من مختلف علوم عصره.

ولقد سارت حياة ديك الجن في مرحلة شبابه، على صورة واحدة لا تتخطاها ولا تحيد عنها، وكانت اللذة المادية في شتى أشكالها وألوانها هي المكوّن الأساسي لهذه الصورة. لقد انكب على اللذات فأدمن شرب الخمر ومطاردة الفتيات والنساء والغلمان، جرياً وراء اللذة المادية الجسدية، ولم يعرف الحب الإنساني الذي ينهض على أساس من العواطف النبيلة والمشاعر الرقيقة.

 كان لقاء ديك الجن ب "ورد" حادثة عارضة في مسيرة حياته اللاهية العابثة، ولكن هذه الحادثة لم تـمض بسلام، بل تركت أثرًا في حياته كمرور العاصفة العنيفة التي خلفت وراءها خراباً لا يُعَمَّر.
 ‏ لقد أحدثت شرخاً عميقاً في قلب ديك الجن، واستمر هذا الشرخ المتفجّع ينـزف مرارة وفجيعة، صابغاً أيامه بلون الدم المُراق، فكان لا يرى إلا الحُمرة، وكان لا يحسّ إلا بالوجع المرّ، ولا ندري كم امتدّت آثار هذه العاصفة في حياة الشاعر، وإلى أيّ مدى تركت أثرًا في ذاكرته، ولكن من المؤكّد أنه لم ينسها بقية أيامه.
 ‏ وأغلب الأقوال ترجح أن ورد كانت واحدةٌ من جاراته النصرانيات التي أحبها ديك الجن وأحبته، فأسلمت على يديه، وتزوجها. ولا غرابة في ذلك، ومثل هذه الحادثة يقع كثيراً في مجتمعاتنا المتسامحة، ولكن الغرابة تنبع من النهاية المأساوية التي كانت بمثابة الفاجعة لهذا الزواج. لقد انتهى بمصرع (ورد) بسيف زوجها، العاشق الغيور، فكان هذا الزواج وما رافقه من قصة حب فوّارة بالعواطف الإنسانية، ثم ما استتبعه من قتل مأساويّ، حدثاً فريداً في تاريخنا الأدبي، ويضيف المؤلف عاش ديك الجن في أوساط أسرة متعلمة معروفة، تقلّب بعض رجالها في أعمال الدولة، ، فكان من الطبيعي أن يُدفع الصبي إلى المسجد، حيث حلقاتُ الدرس ومجالسُ العلماء. وفي المسجد تَلَقَّى علوم عصره، فوعى علوم اللغة والأدب والدين والتاريخ، وحصّل كَمّاً جيّداً من المعارف، كان موضع فخره، فهو يقول:

"ما الذّنْبُ إلاّ لجدّي حين وَرَّثني علماً وورَّثَهُ مِن قبلِ ذاكَ أبي".


براعته الشعرية:-

ولقد انصبّ اهتمام ديك الجن على اللغة والأدب والتاريخ، وكان له منها مكوّناتٌ ثقافية ممتازة، ظهرت بوضوح في شعره. فوعيه لعلوم اللغة جعله متمكنًا بارعًا، قادراً على التصرّف بها، واستيعاب مفرداتها، وتوظيف دلالاتها المعنوية لإبراز أفكاره ومعانيه، دون الوقوع في الأخطاء، وقدرة على ترتيب المفردات في أتساق لغوية سليمة، تجري على سنن العرب. كما قرأ ما وصل إلى عصره من آداب العرب السابقين لعصره، ووقف طويلاً عند الشعر الجاهلي عامّة، وشعر الصعاليك خاصة. وقد أعجب بالصعاليك وفلسفتهم القائِمة على التمرّد والرفض، بل لقد تفوق على صعاليك الجاهلية في تمرّده ورفضه، فوصفهم بأطفالاً رُضّعا قياسًا به. فنجده يصف نفسه:

"وَخَوْضُ ليلٍ تخافُ الجِنُّ لُجَّتَهُ ويَنْطوي جيشُها عن جيشه اللَّجِبِ 

ما الشَنْفَرَى وسُلَيْكٌ في مُغَيَّبَةٍ إلا رَضِيـعا لَبـانٍ في حِمىً أَشِبِ".
       ********************************

حياته ومسيرته الشعرية:-

 عاش ديك الجن قمة الثقافة والإزدهار الحضاري الذي كان يتسم به العصر العباسي، وكان على الشاعر وقتها أن يكون مثقفاً، مُلِمّاً بفنون عصره وعلومه، ليتمكن من السير في زحمة حركات الإبداع والتجديد، وقد إستطاع أن يكون واحداً من شعراء عصره المثقّفين المبدعين والمجدّدين.
 ولا يخفى على الكثير منا التطوّرُ الكبير الذي وصل إليه فنّ الموسيقى في هذا العصر، وما إستتبعه من تطور في فنّ الغناء، وإنتشار المغنيّن والمغنيّات من كلّ لون وجنس.
 ‏لقد خطّ هذا الفن لنفسه طرقاً واضحة المعالم، وكان له علماؤه ومجيدوه، وكان له عشاقه ومؤيدوه. 
 ‏وديك الجن واحدًا من عشاق الغناء والموسيقى، فالشعر والموسيقى هما جناحا الغناء، وبهما ينهض، كما أنّ موسيقى الشعر عنصر هام من عناصر بنائه الفنيّ.
 أقبل ديك الجن على الغناء إقبال المشارِك المبدع، فتعلم العزف، وأتقن قواعد الغناء، ولقد أصبح ما تعلمّه في هذا الباب جزءاً من مكوّناته الثقافية والفنية.
 ‏فقد كان حَسن الصوت، مجيداً للضرب (بالطُّنْبُور)، وكان يتغنّى بشعره، لنفسه، أو لندمائه الذين كانوا يتجمعون حوله في مجالس الشراب، فيتلذذ بشعره وغنائه، ويتلذذ بما يحدثه من إعجاب في نفوس من يسمعه.


قصة ديك الجن ومحبوبته ورود:-


دعونا بعدما تناولنا جزءًا من حياة ديك الجن نروي قصته مع حبيبته الجميلة ورود ومأساتهما التي أبكت الحجر .


ذات يوم خرج ديك الجن مع صديقه الأثير بكر كعادتهما يتجولون بين البساتين تحت ظلال النخيل والأعناب فدخلوا دون علم أرضًا تابعة لدير من الأديرة النصرانية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت في مناطق الشام فشاهدوا بعض الصبايا الجميلات يحتفلن بمناسبة دينية ويتسامرن ويتحدثن وكانت إحداهن تتغنى بأبيات من شعر ديك الجن نفسه تقول :


"عساكِ بحق عيساكِ مريحة في قلبيَ الشاكي

فإن الحُسن قد أولاكِ إحيائــى وإهلاكـــي

وأولــعني بصلبــانٍ ورهبـــانِ ونُسَّــــاكِ

ولــم آتِ الكنـــائس عن
هـــوى فيــهن لـــــولاكِ".

     ************************************

من خلال الأبيات السابقة يبدو أن القصة ورائها قصة وأن دخولهما لأرض الدير لم يكن دون علم منهما بل ربما دخلاها يترصدان الجميلة ذاتها لكننا ننقل هنا ماحملته الكتب وماسطرته الاقلام عن تلك القصة.

ظل ديك الجن وبكر يستمعان حديثهن وإنشادها الساحر وقد تولع صاحبنا بها ايَّما تولع . كل هذا والجميلة لاتعرف ولم تشعر لا هي ولا صويحباتها بهما وياليتهن لم يعرفن إلى الابد لكن شاء قدرها وقدر ديك الجن أن يصدر من الإثنين صوت نبه الصبايا إليهما فتوجهت التي كانت تتغنى بشعره تهددهما بإخبار أهل الدير بإنهما قد إقتحما أرضه ودخلاها بدون موافقتهم .
 سألها ديك الجن: أتعرفين لمن هذه الأبيات التي كنتِ تنشدين فقالت الفتاة: إنها لديك الجن فقال لها :وإن قلت لكِ أنني أنا ديك الجن ؟ صمتت الفتاة وفكرت فأجابت: ومن يُثبت لي أنك أنت هو ؟ سألها ديك الجن :فكيف أُثبت هذا ؟ ردت الفتاة عليه بأن ترتجل أبياتًا من شعرك الآن . فوافق ديك الجن وأنشد قصيدته الشهيرة التي جادت بها قريحته يحركها الحب الذي شعر ديك الجن انه سقط في حب تلك الجميلة و تحدث إليها :

"قولــــي لطيــفـك يـــــنثنـي
عن مضجعي وقت المنام
كي استريـح وتنطفـي
نار تؤجج فـي العظـام
دنـف تقلبـه الأكــف
على فراش من سقـام
أما أنـا فكمـا علمـتِ
فهل لوصلك من دوام ؟"

     *********************************

فقالت له ولكن الجميع يقدر على هذا فربما أنت حفظتها وترددها الآن لذلك أطلب منك شيئًا لن يقدر عليه إلا ديك الجن وهو أن تُبقي الأبيات نفسها وتُغير القافية فقط بحيث تبقي على المعنى فانشد ديك الجن وقد أطلق الحب قريحته من عقالها :

"قولــــي لطيفــــك يـــنثنـي
عن مضجعي وقت الرقاد
كـــي استريـــح وتــنطفـي
نـــار تـؤجج فـي الفـــؤاد
دنــــف تقلبــــه الأكــــف
علــى فـــراش مـــن قتـــاد
أمــا أنــــا فكمــــا علمــــتِ
فهل لوصلك من معاد ؟"

 *************************************

فلم تقتنع وطلبت المزيد فأنشد ديك الجن :



"قولــــي لطيفــــك ينثـنـــي
عن مضجعي وقت الهجوع
كـــــي استريــــح وتنطفــي
نار تؤجج فـي الضلـوع
دنــــف تقلبـــــه الأكــــف
على فراش مـن دمـوع
أمـا أنـا فكمـا علمـتِ
فهل لوصلك من رجوع ؟"

فلم تقتنع وطلبت المزيد فزاد :



"قولــــي لطيفــــك ينثـــني
عن مضجعي وقت الوسن
كــي أستريـــــح وتنطفـــي
نــــار تأجــــج في البــدن
دنــــف تقلبــــه الأكـــــــف
علـى فــراش مـن شجـــن
أمــــا أنـــا فكمـــا علـــمت
فهل لوصلك من ثمن؟"

     **********************************

حينها ،لم تقتنع الفتاة فقط بل أن ملاك الحب أصاب قلبها بنفس السهم الذي أصاب به قلب ديك الجن فربط الحب بينهما حبًا رائعًا جميلاً إشتهر بين العالمين عرف به الداني والقاصي وصار مضرب أمثال أهل المدينة .

بعد ذلك تزوجا وعاشا أجمل حياة لايطيق احدهما فراقًا عن الآخر يعيشان بسعادة لا يشعر بسرها إلا المحبون العشاق .

هذه الفتاة على الرغم من أنها كانت نصرانية تسمى "ورود بنت الناعمة" لكن الجو العام كان متسامحًا وواعيًا وكانت الثقافة العالية موجودة في كل بيت فكان أبوها مُرحبًا بديك الجن راغبًا به لإبنته ورود وعندما أسلمت حين زواجها من ديك الجن كان بُناءً على طلبه .

وكان من أخلص اصدقاء ديك الجن بكر الذي ذكرناه سابقًا وكان ديك الجن يثق به ثقة عمياء .

وكما في كل قصة حب جميلة لابد أن يوجد من ينغصها والذي عادةً مايكون من المقربين , فقد كان لديك الجن ابن عم اسمه ابو الطيب حاول مراودة ورود عن نفسها لكنها صدته بشدة وحفظت لديك الجن غيابه وكرامته لكنها لم تخبره بمحاولات ابن عمه خوفًا من المشاكل التي قد تؤدي إلى القتل في بعض الاحيان .

حينها رتب أبو الطيب مؤامرة خسيسة للإنتقام من ورود لأنها صدته ولتحطيم هذه السعادة التي لم يفهمها وأثارت غيرته .
فقد طالب ديك الجن بدَين له عليه وحين لم يستطع إقترح عليه الرحيل مع قافلة إلى مدينة أخرى لتدبير المبلغ من أمير كانت بينه وبين ديك الجن مودة ومحبة فرحل ديك الجن .

ظل أبو الطيب يترقب عودة القافلة لإكمال خطته الوضيعة للغدر بالإثنين فلما علم بعودتها ذهب إلى ورود مُتصنعًا الجزع وقال لها إن اللصوص أغاروا على القافلة وأن ديك الجن قد قُتل .

إنهارت ورود وملئت الدنيا صراخًا وعويلاً فذهب أبو الطيب إلى بكر لينقل له ماحدث وهو يتظاهر بالحزن الشديد والحرص على ورود
وطلب منه أن يذهب إليها ليُنقذها لإنها قد تُجن أو تقتل نفسها .
 أسرع هذا الصديق الوفي إليها وحاول إسكاتها وكان يبكي هو أيضًا على صديقه الحبيب .
 ‏ إكتمل الجزء الأول من الخطة الوضيعة فلم يبق إلا الجزء الأخير فأسرع إلى ديك الجن وقال له إن ورود وبكر لم يحفظا غيبتك وأنهما في علاقة آثمة منذ لحظة مغادرتك وأن أمرهما قد إفتضح في كل المدينة وأن حمص كلها تتحدث عنهما وعن سيرتك .

جُنّ ديك الجن وفقد عقله فأسرع ليرى ورود وبكر يبكون معًا فقال له أبو الطيب أترى اطإنهم يبكون لأنهم سيفترقون بقدومك.
 لم يكن لدى ديك الجن في تلك اللحظة عقل يتروى به فسحب سيفه من غمده وأغمده في الجسد الذي طالما كان ملهمه ، هذا الجسد الذي كان إلى لحظات مضت يتسابق الزمن ليضُمه ويحضنه ويبث صاحبته شوقه ويغمرها قبلاته لكن الغضب اعماه وقُبلة السيف كانت اسبق . 
 ‏قتلها هي وصديقه المخلص بكر ليجلس يراقب جثتيهما مطعونتين وهو كان الطاعن. 
 ‏حينما صحا لنفسه ورأى ماقد فعل جلس يحتضن ورود ويبكي . كان يبكي كما لم يبكي احد من قبل . لقد انهار حبه بمأساة و ضاع أجمل ما في حياته وها هي حبيبته أمامه مُضرجة بالدماء وها هو صديق طفولته مضرجًا بدمائه قربها .

كان حبها يرفض أن يترك قلبه رغم الخيانة التي كان يتصور أنها ارتكبتها.

 في هذا الصراع الرهيب الذي شعر به ديك الجن صراع الحب والخيانة والحزن والندم أنشد واحدة من أبدع و أروع قصائد الحزن التي عرفتها العربية :

"رَوَّيتُ مِن دَمِهَا الْثََّرَى وَلَطَالِمـا
رَوِّى الْهَوَى شَفَتَيَّ مِن شَفَتَيْهـا
قَد بَات سَيْفِي فِي مَجَال وِشَاحِهَا
وَمَدَامِعي تَجْرِي عَلـى خَدَّيْهـا
فَوَحَق نَعْلَيْهَا وَمَا وَطِىء الْحَصَى
شَيْءٌ اعَزُ عَلـيَّ مـن نَعْلَيْهـا
مَا كَان قَتْلِيّها لِأَنـي لـم اكـن
أَبْكِي إِذَا سَقـط الذَّبـابُ عَلَيْهـا
لَكِن ضَنَنْت عَلَى الْعُيُون بِحُسْنِهَا
وَأَنِفْت مِن نَظَر الْحَسُود إِلَيْهـا".

         *******************************

هنا يتجاوز ديك الجن ويبرز كل روعة الوصف الوجداني في الشعر العربي حين يخبرنا بإلتفافة شعرية رائعة لكنها مُبكية إنه قتلها ثم إحتضنها ووضع وجهها بين يديه وهو يبكي عليها ودموعه تتساقط على خديها ثم يريد أن يُعبر لنا عن مدى حبه لها وهو الذي قتلها قبل ثوان ولازال يتصور انها كانت تخونه فيقسم بنعليها اللذين لم يطأ الحصى أعز عليه منهما . أو ربما قصد أنه لحظة أن وضع السيف في مجال وشاحها يريد قتلها كانت دموعه تجري على خديها وإنه هنا وصف للحظة لايحتملها البشر .

بعد فترة توفي ابن عمه فأعترف له وهو يحتضر أن حبيبته كانت طاهرة ولم تخنه لا هي ولا صديق عمره بكر فكان أن قضى عمره بعدها كمدًا وهمّا ليس له إلا ذكراها وحبها .

كان يذهب الى قبرها فينشد :



"قمرٌ انا استخرجته من دجنـة
لبليتي وزففتـُهُ مـن خِـدْرِهِ
فقتلتـهُ ولـهُ علـيَّ كرامـة
مِلءَ الحشا وله الفؤادُ بأسـرهِ
عهدي به مَيْتاً كأحسـن نائـمٍ
والحزنُ ينحرُ مقلتي في نحرِهِ
لو كان يدري الميْتُ ماذا بعدهُ
بالحيّ حلَّ بكى لهُ في قبـرِهِ
غُصَصٌ تكادُ تفيضُ منها نفسهُ
وتكادُ تُخرجُ قلبَهُ من صـدرِهِ".

    *************************************

يالروعة الوصف حين يتخيل ماسيحدث للميت المرتاح من ألم يُخرج قلبه من صدره بل وتفيض منه روحه وهو الميت لو عرف الألم الذي في صدر الحي .

لقد أحزن ألمه الجميع حتى إن اخت بكر التي كانت تبحث عنه ثأرًا لدم أخيها حزنت عليه حين سمعته يبكي وينشد شعره فيهما فغفرت له دم أخيها .

كان يخلط حفنة من تراب قبر ورود مع خمره ويشربه ثم يعيدها مع تراب قبر بكر ويظل يبكي . بقي هكذا حتى ذبل جسمه فصار كما وصفه هو ليس له ظل و كان يعتبر حياته بعدها خيانة لها فكان يُنشد :

"بانوا فصار الجسم من بعدهم
ما تصنع الشمس لـه فيّـا
بــأي وجــهٍ أتلقـاهـمُ
إذا رأونـي بعدهـم حيّـا".

    **********************************

زيادة في العذاب الذي عاشه فإن العمر إمتد به إلى أن وصل 75 عمًا قضاها بكاءًا وألمًا وحسرة وذكريات ورود لاتفارقه وطيفها ينام ويصحو معه إلى يوم مماته وذلك حال من يفقد حبيبه إن كان بموت أو بفراق .

رحم الله ورود بنت الناعمة ورحم الله ديك الجن فقد خطّا بحبهما وخطّت معهما مأساتهما حفرًا عميقة في تاريخ الحب وتاريخ أدب الغزل والحب العربي .


المصادر والمراجع:-

بتصرف عن كتاب (ديوان ديك الجن الحمصي) جمع وتحقيق ودراسة الأستاذ مظهر الحجي، الناشر اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2004.
المحبّ والمحبوب والمشموم والمشروب: السريّ بن أحمد الرفّاء: تحقيق مصباح غلاونجي. دمشق، مجمع اللغة العربية، دار الفكر للطباعة، 1406هـ / 1986.
 نبذة حول: ديك الجنّ, ، "www.adab.com"، اطُّلِع عليه بتاريخ 4-6-2020، بتصرّف .
 ‏
reaction:

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق